من أقسى و أبشع الهزائم في تاريخ "فرنسا" ، إن لم تكن أعظمها على الإطلاق هي هزيمتهم في موقعة "المنصورة" الخالدة ..
تخيل أن "الفاتيكان" يرسل كاردينالا خاصا ليؤسس به كنيسة مقدسة و يجعل في "دمياط" أكبر كاتدرائية كاثوليكية على البحر المتوسط ، و يبارك الحملة رسميا و دينيا ، و يرسم "لويس" بالقديس ، ليكون البحر المتوسط كله مسيحيا كاثوليكيا خالصا ، من "تونس" غربا إلى "مصر" شرقا ..
لم يكن يومها لمصر و شعبها معينا و لا نصيرا سوى الله سبحانه و تعالى فقط ..
الجيش الفرنسي النظامي الضخم ، و الذي جمع أعظم فرق الفرسان الثقيلة في "أوروبا" و أبطال الحروب الصليبية من "فرسان المعبد" و "القديس بطرس" و "الإسبتارية" ، بالإضافة الي فرقة النبلاء الإنجليزية بقيادة السير "وليم اوف" في جمع بلغ ثمانين ألف فارس من خيرة فرق القتال و الفرسان في العصور الوسطى و أصحاب الخبرات و القوة .
جاءت طلائعهم الضخمة فاكتسحت "دمياط" رغم وحود جيش الدولة المكون من "الأيوبيين" و "التركمان" و "العربان" ، الذين انسحبوا ى "جديلة" تاركين غنائم هائلة ، و أصبحت "دمياط" إمارة صليبية ، و قرعت أجراس الكاتدرائية و تسلم الكاردينال الصليب و رسم القديس "لويس" ..
اتجهوا إلى "فارسكور" ومن بعدها الي "جديلة" و التي دلهم علي معسكر المسلمين "خائن نصراني" فقتلوا الأمير "فخر الدين قائد الجيش ، و يمموا وجوههم شطر "المنصورة" لينطلقوا منها إلى "القاهرة" كالسيل الجارف العرمرم ، و بلغت الفاجعة المصريين الذين ظنوا أن الفرنسيين سيكتفون بالساحل كدأبهم في الحروب الصليبية ، فقامت النساء بخدش وجوههن و قص شعورهن ليزهد في شرفهن علوج الصليبيين و لا يمسوهن بسوء ..
و لكن كانت هناك مجموعة من الفرسان المسلمين الأجانب الذين رأوا إنكسار الجيش المسلم بدون معركة ، و بانسحاب مخز ، فقرروا أن يرفعوا لواء الشرف و المجد و البطولة ..
كانوا مجموعة من المماليك و الخواص للحماية و حراس شخصيين للملك الأيوبي ، قرروا أن ينحوا القيادة القديمة البالية و يقوموا هم بواجبهم المجيد تجاه الدين و الأرض التي آوتهم و عاشوا فيها سني عمرهم ..
كانوا ثلاثة آلاف فارس تحت قيادة فارس عظيم "فارس الدين أقطاي" ، قسموا أنفسهم في مجموعات ما بين "جديلة" و "المنصورة" ، و كانت أولى ضحاياهم هي فرقة التأمين الخاصة ، و هي فرقة فرسان المعبد الثقيلة بقيادة الأمير و ولي العهد و شقيق لويس "روبوت دي ارتوا" ، و التي تم نحرها عن بكرة أبيها في أول كمين في مبارزات فردية ، فقد استقبلتهم فرقة قوامها ثلاثمائة فارس مملوكي بقيادة "بيبرس البندقداري" ، أخذتهم من كل جانب ، و لم ينج منهم سوى فرد واحد اسمه الفارس "بيتر بيرتني" تركه الفرسان لأصابته البالغة ، و خسر الفرنسيون أقوى فرقتين ضاربتين في افتتاحية القتال ، و هم فرسان المعبد و فرقة النبلاء الإنجليزية ..
ظل الجيش الفرنسي في حالة صدمة ، و لم يتخيل أحدهم قط أن أعظم فرق النخبة و الإنتشار قد تم نحرهما كالدجاج بيد سيوف الإسلام الحاسمة ..
فتتقدم فرقة اخرى لتقوم بدور التمهيد و الانتشار لتأمين عبور الجيش عند "أشموم" لعبور الجيش الرئيسي ك "رأس كوبري" ..
و لكن ندع المؤرخ الملكي "جوانفيل" الذي حضر الواقعة يروي لنا ما جرى :
"في تلك المعركة وجدنا أعدادا كبيرة من الفرسان من ذوي الهيئات المحترمة ، ولوا مدبرين فوق الجسر الصغير ، في مشهد مخز لأبعد الحدود ، لقد كانوا يهرولون و هم في حالة من الذعر الشديد ، و بدرجة جعلتنا لا نتمكن من إيقافهم على الإطلاق ، أستطيع ذكر أسمائهم و لكني لن أفعل ذلك لأنهم صاروا في عداد الأموات"
و عبر الجيش الفرنسي ببطء و خوف شديد من كمائن المماليك المتحركة حتى تم فتح باب المدينة الرئيسي وفق الخطة المصرية ، و دخل الجيش الفرنسي ، و فجأة و عند وسط "المنصورة" ، و بينما يخيم الصمت على المكان ، و كأن البلد قد تم تهجيرها ..
يقذف أحد المصريين بحجر ، و يتلوه آخر ثم رابع ، و عند الحجر العاشر تسقط الآلاف من الحجارة من خلف كل بيت و شجر و صخر ، و تتراجع القوات الفرنسية بشكل منظم و مدروس و تنتشر في الأنحاء ، و هنا يخرج لهم الفرسان المماليك من كل زقاق و شارع و بيت ، و يغلقها الأهالي من خلفهم بالمتاريس لينظروا إلى ذبحهم بسعادة و تكبير ، و يتجرأ الشعب فيقفز من أعلى البيوتات فمنهم من يهبط على رأس الصليبيين كالصاعقة ليوقعه ، ثم لينقض البقية عليه فينحروه مثل الأضحية ..
تراجع الفرنسيون ، و لكن لم ينفعهم تراجعهم هذا ، فقد جاءت الفرقة الأولى من "جديلة" لتقطع عليهم الطريق و تأخذهم من كل جانب ، و كان المملوكي من القوة و البأس حتى أن الفارس الصليبي المحترف لا يطاوحه سوى ضربتين و الثالثة تطير الرأس ..
قذف الفرنسيون بأنفسهم في الترع و النهر ، فكان يهبط لهم الأهالي و يسحبونهم للشاطئ فيسلبون عدتهم ثم يذبحونهم .