إيقاف خطورة قبيلة غطفان


 


إيقاف خطورة قبيلة غطفان، وقد أرسل الرسول ﷺ ليوقف خطورة غطفان ويؤمن جانبها عدة سرايا قرابة ست سرايا، ثم خرج إليها في غزوة ذات الرقاع، وكانت هذه الغزوة في شهر ربيع الأول سنة سبع، يعني: كانت بداية فتح خيبر في أول محرم سنة سبع، واستمر أكثر من شهر، 


فالرسول ﷺ خرج في أواخر شهر صفر سنة سبع أو أوائل ربيع الأول سنة سبع إلى غطفان، فهو خرج إلى غطفان بمجرد أن عاد من فتح خيبر، كان في حركة دائبة وفي جهاد مستمر في سبيل الله، 


وذكرت بعض كتب السير أن غزوة ذات الرقاع كانت في السنة الرابعة، وهذا لا يستقيم؛ لأن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه ثبت في البخاري أنه شارك في غزوة ذات الرقاع، وأبو موسى الأشعري باتفاق لم يأت إلا في العام السابع من الهجرة مع قدوم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه إلى خيبر، فمن المؤكد أن غزوة ذات الرقاع تمت في السنة السابعة من الهجرة.


وهذه الغزوة كانت موجهة إلى قبائل غطفان، وقبائل غطفان لم تكتف بحصار المدينة المنورة في غزوة الأحزاب ولا بمساعدة اليهود في خيبر، بل كانوا يعدون العدة لغزو المدينة المنورة مرة أخرى بعد غزوة الأحزاب؛ وذلك لأنهم علموا أن الرسول ﷺ أرسل إليهم سرية قبل ذلك وهو يفتح خيبر، فلذلك أرادوا أن يغزوا المدينة المنورة من جديد، 


فكان على الرسول ﷺ أن يقف وقفة جادة تجاههم، ويخرج إليهم ﷺ بنفسه بدلاً من أن ينتظرهم في المدينة المنورة؛ لكي لا يُظَن أن المسلمين يخافون من غطفان وأنهم لا يجرءون على المواجهة المباشرة معهم، فالرسول ﷺ لا يريد وجود هذا الانطباع السلبي لا عند غطفان ولا عند أهل الجزيرة العربية بصفة عامة؛ 


ولهذا جهز ﷺ جيشاً وخرج فيه بنفسه ﷺ، ويبدو أن جيوش المسلمين في ذلك الوقت كانت موزعة في أماكن مختلفة، فهناك جيوش في خيبر وفي وادي القرى وفدك وتيماء وفي غيرها من الأماكن الملتهبة في ذلك الوقت؛ فلذلك لم يأمن الرسول ﷺ أن يترك المدينة بلا جيش يحميها، فهو لا يأمن غدر قريش، وقد تلف قبائل غطفان من هنا أو هناك لتدخل إلى المدينة المنورة، واليهود كذلك قد يغدرون، فهناك أمور خطيرة جداً تجعله يترك حامية في داخل المدينة المنورة، 


وهذه الأمور جعلت الرسول ﷺ يخرج في جيش صغير نسبياً، هذا الجيش كان تقريباً أربعمائة وفي بعض الروايات سبعمائة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ولم يكن معهم من الإبل إلا القليل، حتى إن الستة من الصحابة كانوا يتناوبون ركوب البعير الواحد، 


وذهب الرسول ﷺ مسافة كبيرة جداً بجيشه في عمق الصحراء، توغل جداً حتى بلغ ديار غطفان، وغطفان إلى الشمال الشرقي من المدينة المنورة على مسافة عدة ليال من المدينة، ولكون المسافة كبيرة والصحابة يسيرون على أقدامهم فقد أثّر ذلك جداً عليهم رضي الله عنهم أجمعين، 


روى البخاري رحمه الله عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: (خرجنا مع رسول الله ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه)، أي: أن الستة يتناوبون على بعير واحد فقط، يقول: (فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات الرقاع لما كنا نعصب الخرق على أرجلنا)


نحتاج إلى أن نقف وقفة مع هذا الموقف، فهذا الحديث وأمثاله يوضح لنا مدى التضحية والبذل والعطاء الذي تميز به هذا الجيل النادر، وهو جيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، لقد كانوا في حركة دائبة مستمرة في سبيل الله.


ففي الأشهر الأخيرة من السنة السادسة ذهب الرسول ﷺ والصحابة إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، مع التضحية التامة بالنفس والذهاب إلى عقر دار قريش، وبيعة على عدم الفرار وعلى الموت، واستعداد تام للقتال حتى النهاية، ثم عودة للمدينة المنورة بعد صلح الحديبية، وانطلاق مباشر إلى حصون وقلاع خيبر وقتال شرس أكثر من شهر متصل في خيبر، وانتصار مهيب لا مثيل له، ثم عودة للمدينة لعدة أيام ثم الخروج والسير في الصحراء مسافة طويلة لقتال قبيلة غطفان، وهي من أقوى وأشرس قبائل العرب.


فالصحابة كانوا في حركة دائمة في سبيل الله، وبذل وتضحية في كل دقيقة، وسبق أن رأينا كيف أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه عاد من الحبشة ووجد أن الرسول ﷺ قد غادر المدينة إلى خيبر فترك المدينة مباشرة واتجه إلى خيبر ليشترك في القتال، 


وأبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه يأتي من اليمن في أيام خيبر، فيخرج بعد قدومه بعدة أيام إلى هذه الغزوة الشديدة غزوة ذات الرقاع، لم تكن هناك لحظة ضائعة في حياة هذا الجيل، ولعل ذلك هو الذي يفسر الكم الهائل من الأحداث التي تمت في زمن البعثة النبوية، وزمن البعثة النبوية فترة محدودة جداً وقصيرة، 


لا يمكن أبداً أن تستوعب كل هذه الأحداث، إلا إذا نظرت إلى هذا الجهد والبذل والعطاء المستمر من هذا الجيل رضي الله عنهم أجمعين.


 فإذا أضفت إلى هذا الاستغلال الدقيق لكل لحظة من لحظات الحياة مسألة البركة التي يُنعم الله عز وجل بها على عباده المؤمنين، عندها تستطيع أن تفهم كيف فعلوا هذه الأحداث الضخمة الكثيرة في هذه الفترة المحدودة من الزمان، وكانت كل أعمالهم هذه خالصة لله عز وجل، 


حتى إن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه عندما حكى هذا الحديث كره وندم أن حدّث بذلك الأمر، وقال: (ما كنت أصنع بأن أذكره)، فهو ندم على ذكره لذلك الأمر، وتمنى أنه لو كتم هذا الأمر ليصبح عمله بينه وبين رب العالمين سبحانه وتعالى، لكن الحمد لله على أنه حدّث بذلك الأمر؛ ليصل إلينا فنتعلم منه ونُعلمه لإخواننا وأبنائنا.


ومع كل هذه الشدة وصل الجيش الإسلامي إلى ديار غطفان، وكنا نتوقع أن تحدث معركة طاحنة بين المسلمين الذين تعرضوا لأذى غطفان قبل ذلك أكثر من مرة، وبين غطفان القبيلة الكبيرة الشرسة التي تغزى في عقر دارها، ولكن لم يرد ولم ينشب قتال أصلاً لا كبير ولا صغير،


فقد آثر أهل غطفان ألا يدخلوا في صراع مع المسلمين، مع أن المسلمين على أقصى تقدير لا يزيدون عن سبعمائة كما ذكرنا، وأعداد غطفان هائلة، والمعركة في عُقر دار غطفان، وفي الطرق والدروب التي خبروها وعرفوها قبل ذلك ألف مرة، والمسلمون قادمون من مسافة بعيدة جداً، قد نقبت أقدامهم من السير كما يقول أبو موسى الأشعري ، وأهل غطفان مستقرون في ديارهم.


سبحان الله! هذا الأمر في عُرف أهل الدنيا عجيب، كيف يهرب هؤلاء الغطفانيون وهم في هذه الظروف المستقرة من جيش ظروفه صعبة كجيش المسلمين، هذا الكلام وهذا الوضع لم يكن له إلا تفسير واحد، وهو أن هذا الجيش الإسلامي مؤيد بقوة خارقة فوق كل الحسابات المادية، إنه تأييد رب العالمين سبحانه وتعالى لرسوله الكريم ﷺ ولعامة المؤمنين الذين ساروا على طريقه، 


يقول الرسول ﷺ: (نُصرت بالرعب مسيرة شهر) أي: قبل أن يصل إلى أرض المعركة يكون الجيش الذي هو ذاهب إليه مرعوباً منه.


إذاً: هذا الأمر تأييد رب العالمين لجيش المؤمنين، هذا أمر مفهوم بالنسبة لعموم المؤمنين، ورأوه كثيراً، رأوه في بدر وفي الأحزاب وفي قتال اليهود في المعارك المختلفة بدءاً من بني قينقاع وانتهاء بخيبر، بل شاهدوه في النصف الأول من غزوة أحد عندما كان المسلمون مرتبطين بالله عز وجل، 


قال تعالى تعليقاً على النصف الأول من غزوة أحد: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ}[آل عمران:151] 


أي: أن الله سبحانه وتعالى إذا ارتبط به المسلمون ألقى في قلوب أعدائهم الرُعب، هذا بدون حسابات مادية وبدون أعداد وعدة، فهو أمر غير مفهوم تماماً عند أهل الدنيا، لكنه أمر مفهوم ويقيني عند المؤمنين؛ لأنهم يعرفون أن الله سبحانه وتعالى معهم، 


لكن الجديد في غزوة ذات الرقاع الشعور أن هناك قوة خارقة إلى جانب المؤمنين، وهذا الشعور وجد عند أهل غطفان، وذلك عندما وجدوا أنفسهم ينسحبون أمام الجيش الإسلامي بشكل غير مبرر، ووجدوا أنفسهم للمرة الأولى في حياتهم يرتعبون من غيرهم، فهؤلاء يعيشون على السلب والنهب وقطع الطريق، وحياتهم كلها في حرب، وكل عيشهم قتال، ومع ذلك وجدوا أنفسهم يخافون من أربعمائة أو سبعمائة، 


فإذا كان هذا الرعب من فريق قليل كالمسلمين، فإنه يحتاج إلى وقفة، ويحتاج إلى تفسير وإلى تحليل، هكذا فكّر أهل غطفان، 


فغزوة ذات الرقاع هزت قبيلة غطفان من الأعماق، مع أنها غزوة -كما ذكرنا- لم يحدث فيها قتال، لكن نحن تعودنا على أن يأتي النصر من حيث لا نحتسب، ليعلم الجميع أن النصر من عند الله عز وجل.


فبدأت قبائل غطفان وزعماؤها يفكرون جميعاً بنظرة إيجابية لهذا الدين، مع أنهم لم يأخذوا قراراً سريعاً بالدخول في الإسلام، لكنهم وقفوا وقفة جادة للتأمل.


فهؤلاء المرتزقة الذين عاشوا حياتهم على السلب والنهب وجدوا أنفسهم أمام شيء ما قبلوه قبل ذلك، ولم يسمعوا عنه إلا من غير المسلمين، فهم طالما سمعوا عن المسلمين من قريش ومن اليهود ومن غيرهم، لكنهم أول مرة يقابلون المسلمين حقيقة، ودخلت الرهبة في قلوبهم، وألقى الإسلام بجلاله وهيبته على غلاظ القلوب وعلى دهاة الإجرام أهل غطفان؛ لأن هذا الدين المحكم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وهذا الدين يتسلل إلى القلوب تسللاً.

Media center total solutions of content and raw wiki information source - The hulk library of knowledge world wide - sound library - Books library

bitcoin , reads , books , cord blood , attorneys , lawyers , domestic , local services , offshore companies , offshore lawyers , beyond the seas business , laws , enactions , jungle , ameriican eagle , america business , gas, gasoline , petrol , burn , films , new movies , stars , hollywood , stationary , offices , federal law , states divisions

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال