إن الاستبداد هو أصل كل
الشرور والأمراض الاجتماعية، فالاستبداد يدمّر الأخلاق ويبعد العوام عن التدين الحقيقي
ويُغلّب التدين الظاهري، وكذلك يحارب على جعلهم جهلاء لا يعلمون شيئًا ولا يتعلمون،
ويخلق أيضًا فجوة اقتصادية بين طبقات المجتمع بل ويساعد على تكديس الثروات في أيدي
الأغنياء فقط، ويجعل الفقراء أكثر فقرًا، كما أنه يمثل العائق الرئيسي أمام التربية
السليمة للأبناء على القيم والمُثُل العُليا، ويقدّم الكاتب مجموعة من الحلول العملية
للخلاص من الاستبداد واستبداله بأنظمة عادلة.
ما الاستبداد؟
الاستبداد لغةً هو اغترار
المرء برأيه وعدم قبول النصيحة، ويراد بها تحديدًا استبداد الحكومات لأنها أعظم مظاهر
الاستبداد، وهي التي جعلت حياة الإنسان في شقاء وتعاسة، والمراد باستبداد الحكومات
أنه تصرف فرد أو مجموعة في حقوق قومٍ بلا خوف من حسابٍ أو عقاب.
وأشد مراتب الاستبداد هي
حكومة الفرد المطلق والوارث للعرش والحائز على سلطة دينية، ولكن كما يقول الكاتب فإن
هذا النوع من الاستبداد يخفّ تدريجيًّا إلى أن ينتهي بالحاكم المنتخب المؤقت المسؤول
فعلًا، ويحدث هذا بشكل أسرع كلما قلّت أعداد الرعية وقلّ التفاوت في الثروات وكلما
ترقى الشعب في المعارف.
ومن أقبح أنواع الاستبداد
أيضًا هو استبداد الجهل على العلم واستبداد النفس على العقل ويسمى استبداد المرء على
نفسه، وذلك لأن الله خلق الإنسان حرًّا قائده العقل، فكفر وأبى إلا أن يكون عبدًا قائده
الجهل. فالاستبداد هو يد الله القوية التي يضرب بها رقاب الهاربين من جنة عبوديته إلى
جحيم عبودية المستبدين، فقد ورد في الأثر: "الظالم سيف الله ينتقم به ثم ينتقم
منه"؛ فإن قيل لماذا يبتلي الله عباده بالمستبدين؟ فيكون الجواب هو أن الله عادل
لا يظلم أحدًا، فلا يولّي المستبد إلا على المستبد، ولا يولّي الأحرار إلا على الأحرار،
وهذا هو تفسير معنى العبارة الشائعة: "كما تكونوا يُولّى عليكم".
الاستبداد والعلم في علاقة
عكسية
لا يخفى على المستبد مهما
كان غبيًّا أنه لا استعباد ولا اعتساف إلا ما دامت الرعية حمقاء في ظلام الجهل، فالعلم
نور يوضح الخير ويفضح الشر ويبدد الظلام، والمتأمل يرى أن كل سلطة تقوى وتضعف بنسبة
نقصان وزيادة علم المرؤوسين.
فالمستبد لا يخشى علوم
اللغة، ولا العلوم الدينية المختصة فيما بين الإنسان وربه لأنها لا تزيل غشاوة الاستبداد،
لكن الذي يرعب المستبد هو علوم الحياة مثل الحكمة والفلسفة وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع
والسياسة المدنية وغيرها من العلوم التي تفضح ظلمه وقهره، وخوف المستبد بالأخص إنما
يكون من الذين يندفعون لتعليم الناس.
إن الاستبداد والعلم ضدّان
لا يجتمعان، فالغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم وينكّلون بهم، والسعيد منهم
من يتمكن من مهاجرة دياره، ولهذا تجد أن كل الأدباء وأكثر العلماء تقلبوا في البلاد
وماتوا غرباء، فقد قال المدققون: "إن أخوف ما يخافه المستبدون الغربيون من العلم
أن يعرف الناس حقيقة أن الحرية أفضل من الحياة، وأن يعرفوا النفس وعزّها، والشرف ومكانته،
والحقوق كيف تُحفظ، والظلم كيف يُرفع، ويتعلموا عن الإنسانية والرحمة؛ فالحاصل أنه
ما انتشر نور العلم في أمّة إلا وتحررت من قيود الاستعباد".
الاستبداد وتدمير الأخلاق
الاستبداد يفسد أغلب الأخلاق
الحسنة فيضعفها أو يمحوها، فيجعل الإنسان غيرَ حامدٍ على نعمه وحاقدًا على قومه لأنهم
عونٌ لبلاء الاستبداد، وفاقدًا حب وطنه لأنه غير آمن فيه، ولا يحب عائلته لأنه ليس
مطمئنًا على دوام علاقته معهم، وقد يصل الضرر إلى فقدان القدرة على التمييز العقلي
بين الخير والشرِّ.
ومما يفعله الاستبداد بالأخلاق
أنه يُعين الأشرار على شرِّهم، ويؤمنهم من سوء العواقب، فلا اعتراض ولا انتقاد لهم
على أفعالهم، لأن أكثر أعمالهم تبقى مستورة بخوف الناس من أن ينالهم شرهم، ولهذا مشهور
في الأثر "البلاء موكل بالمنطق"، والبلاء هنا هو أن ينالهم الأذى والشر،
والمنطق هو النُطق بفسادهم أو حتى الإشارة إليه.
إن فساد الأخلاق يجعل الأممَ
غيرَ قابلةٍ للخطاب؛ فالفساد يبدأ من بيت المستبدّ وحاشيته ثم يصيب كل العوام كالعدوى،
وبالطبع لا يوجد أمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر فذلك جريمة في قوانين المستبدين، فالأمر
يشبه المرض الذي لا تملك له علاجًا أو وقايةً منه فتسوء الحال يومًا بعد يوم.
ويشير الكاتب إلى تلك الأصوات
التي تحصر الانحطاط السياسي في تهاون الرعية بأمور دينها، ولا تعتقد مخرجًا إلا التمسك
بعروة الدين -يقصدون العبادة-، ولكن هذا الاعتقاد لا يفيد وذلك لأن الدين بذرة جيدة
لا شبهة فيها فإذا صادفت أرضًا طيبة نبَتت ونمَت، فإذا أخذْت تفسير قول الله عز وجل
﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ﴾ بالمعنى الحرفيّ وتواكلت
فهذا خطأ، بل يجب أن تلتمس ذلك -النهي عن الفحشاء والمنكر- وتطلبه من خلال إحياء العلم
وإحياء الهمة، مع الاستعانة بالدين والاستفادة منه، فهنا بداية الإصلاح الأخلاقي الحقيقي.
جميع المقالات حصرياً علي
موقع مجلتي
Tags:
ثقافة عامة