حينذاك، لم يكن يصعب على زائر موسكو أن يلمس توجس القيادة الروسية من العالم بأسره، وقراءة كل ما يحصل في هذا العالم مؤامرة ضده في إطار خطة هدفها محو آثار "الاتحاد السوفياتي" عن بكرة أبيها لمصلحة تفرد الولايات المتحدة بالساحة العالمية.

وأكثر ما توجست منه النخبة السياسية الروسية، حينذاك، كانت "الربيعات" العربية، كما أوضح الكاتب السياسي في العلاقات الخارجية الروسية ديمتري كوسيريف. قال لي أنه "يعتبرها صناعة أميركية، وتحديدا لأنها ساهمت بإخراج بلاده من منطقة حوض المتوسط. فلا دور لروسيا في مصر ما بعد مبارك، ولا في تونس ولا في ليبيا". وأضاف ان "السيناريو الذي شهدته دول الربيع العربي كان معداً لروسيا وتم تنفيذه في العالم العربي"، مصنفا نتائج التغيير بأنها "معادية لروسيا".

حينذاك، كان القلق كبيرا من تداعيات ما يحصل في سوريا. فهو يؤثر على "أمن الطاقة" الذي تتحكم به القيادة الروسية في علاقاتها مع أوروبا الغربية. وتحدث المحللون عن ان الغاز هو القطبة الاساسية في الرعب الروسي من التغيير. وتحديدا بعد أن بدأت قطر تقنية الغاز المسيل التي لم تكن ستبدأها روسيا إلا بعد اعوام.

واعتبر المحللون أن هذا الملف أساسي. فدول أوروبا الغربية تعتمد بنسبة 30% على الغاز الروسي وغاز جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.

كذلك كان الخوف في روسيا كبيرا من "المد الإسلامي"، الذي يمكن أن يهددها إذا ما انتصرت في حينه "الثورة السورية". كما قال أحد المتخصصين الروس، مشيرا إلى أن هناك ما يقدر بثمانية وعشرين مليون مسلم في روسيا، يشكلون حوالي 20 بالمائة من السكان (أي واحد من كل خمسة روس مسلم) ويشكلون أكبر أقلية دينية، ومضيفا أن "مصادر القلق ترتبط بصعود الإسلاميين إلى السلطة في سوريا، لتصعب مقاومة هذا المد مرورا بتركيا ووصولاً إلى الجمهوريات الإسلامية الخمس التي تطوّق روسيا، مما ينذر بعواقب لا يستهان بها"

أيضا قبل عشرة أعوام، قال لي رئيس تحرير مجلة "روسيا في السياسة الخارجية" فيودور لوكيانوف عن التدخل الروسي في سوريا: "هذا ليس النزاع الأخير. بعد ذلك لن تفقد روسيا في أي نزاع مقبل خسائر إضافية على الأقل".

حينذاك، كل الأوراق طرحت على طاولة الهواجس الروسية. ومن يمكن مقابلتهم من مفكرين ومسؤولين كانوا يستعيدون مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، التي أظهرت الاستهتار الأميركي بروسيا العظمى، يتذكرون الإملاءات والاستعلاء والاستخفاف، يقول أحد المتخصصين في السياسة الخارجية "أحيانا كان الخطاب الرسمي الأميركي يبدأ بـ: على روسيا أن تفعل كذا وكذا".

لذا، وبعد عشرة أعوام، يمكن الاستنتاج أن اندلاع "الثورة في سورية" وتدخل روسيا لوقفها وتغيير معادلاتها، شكلت فرصة ذهبية لعودة موسكو بقوة إلى الساحة العالمية، بمواجهة الولايات المتحدة، وتحديدا إلى حوض البحر المتوسط، ما أمن لها مصالح سياسية واقتصادية وجيوبوليتيكية روسية بحتة. كما ساهم بإلغاء تصنيف لا يحترم المقامات والأحجام في "لعبة الكباش" بين الدول في المحافل الدولية.

ولعل الأزمة الأوكرانية، اليوم، هي تتمة لما بدأ قبل عشرة أعوام لجهة تطبيق الدرس الذي يبدو أن "الشركاء" في المجتمع الدولي لم يستوعبوه جيدا، تعكسه الحرب التي اندلعت في التصريحات الأميركية والأوروبية، قبل اندلاعها على الأرض.

اليوم، لا تزال مفيدة معلومات وقراءات صدرت قبل عشرة أعوام، ومنها أن العالم الغربي عرف أنه ومن دون مشاركة روسيا لا يمكنه حل مشكلة دولية كبيرة. ومنها أن ما يحكم الموقف الروسي يرتبط بالحصول على المراد من المجتمع الدولي الذي تجاهل روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحاول إلغاءها من المعادلة الدولية، ولا بد من تلقين هذا المجتمع درساً في أصول توزيع المغانم والحصص التي تجنى من كل تغيير يبلور صيغة العالم الجديد.

اليوم يريد الرئيس الروسي فلاديمير بوتن أن يقول للغرب إن زمن الاستعلاء والاستخفاف قد انتهى. ولم يعد همه فقط أن تكون روسيا شريكا أساسيا في أي مشكلة. يريدها أن تكون صانعة قرارات. ويريد أن يثبت ذلك للاعبين الأساسيين الآخرين في هذه المرحلة التي تشهد نظاما عالميا جديدا يجري العمل لإعادة صياغته.

اليوم يمكن استرجاع ما قيل قبل عشرة أعوام لتوضيح أبعاد السؤال: لماذا أوكرانيا والحرب التي اندلعت ويعيش العالم أجواءها قبل حصولها على الأرض؟

ما يستتبع سؤال آخر: لكن من سيستفيد من هذا القرار؟

أما مروحة الأجوبة فهي واسعة وسع احتمالاتها.

ربما تستعيد روسيا مجدها السوفياتي أو حتى القيصري في زمن العز..

وربما سيجد الخصوم في هذه الحرب مسارا ينهك بوتن الساعي الى التوسع.. كما هي حال من سبقوه وانتشوا بأمجادهم الآنية.. ليسقطوا متى أينعت رؤوسهم وحان قطافها.

وربما سيجد حلفاء روسيا فرصة لاستغلال حاجة بوتن إليهم حتى لا يبقى أعزلا بمواجهة خصومه، فيبتزوه "حُبِّيا وبمودة" ويستفيدوا منه أكثر فأكثر..

وربما وربما.. والعالم يشهد مزيدا من الحروب التي تنهك الشعوب وتبيدها وتقضي على اقتصادات بالكاد صامدة.. وتزيد أرباح الولايات المتحدة من صناعة الأسلحة..

ومن يعش ير..


اقرأ ايضا هل انت من الاشخاص المهوسيين بتغيير الاخرين من هنا